الخميس، 24 مايو 2012

رحيل


" شد حيلك يا بني ..."
هكذا قال وهو يربت علي كتفه
كان واقفا هناك يجتر أحزانه عندما أخرجه منها وبدأ يفيق من خيالاته علي واقعه المرير
تلفت حوله فرأي الرمل يحيطه من كل مكان
الجبل !!!
كم سمع عنه وهو صغير!!
حيث يدفن كل من يموت من قريته
صحراء واسعة يمر منها الطريق السريع في منتصفها ليقسمها إلي نصفين حيث تأتي من على بعد الجرارات الزراعية تحمل آخرين علي ظهور مقطوراتها ، وسيلة نقل رخيصة وبسيطة لنقلهم عند دفن أحدهم .
رجال عدة يحفرون أمامه في حفرة صغيرة ضيقة
يتناوبون علي الحفر بحرقة شديدة وكل منهم يمني النفس ببعض الثواب الذي يناله من يحفر
حفرة صغيرة شريدة يطوي فيها هذا الكيان الكامل ؟؟ !!
هذا الراقد أمامه في خشبة صغيرة ملفوفا بأردية عدة بانتظار الانتهاء من مثواه لكي يوارى فيه ؟

" شد حيلك يا بني كان راجل طيب وكفاية انه رباك ..."
هكذا يقول آخر
ما أهون الكلمات علينا حينما لا تتعلق بنا !
كل منهم يقول بضع كلمات ويعود إلي عالمة المنتزع منه
هذا إلي أرضه ،وذاك إلي زوجته ،وآخر ليرى ما ورائه ويُترك هو ليواجه فقده الموحش !!
اتكأ علي شاهد قبر خلفه وهو يقاوم دموعه .
عليه أن يتماسك هكذا الرجل ،يحزن لكنه لا يبكي
ولكم هو بأشد الحاجة إلي البكاء
وهل يبكي الرجل إلا للشدائد من الأمور ؟؟
وهل هناك أشد من فقد أبيه ؟؟

كان هنا ومن ثم لم يكن
هكذا بكل بساطة
اختفي هذا الرجل الذي يومض في ذاكرته ببسمته الطيبة وتجاعيد جبهته عندما يغضب منه

هل سيُدفن بذكرياته أم تركها خلفه لتكون شاهدة عليه ؟؟
وهل هناك أقسي من الذكريات ؟؟

" يلا يا جماعة خلصنا حفر هاتوا ابنه علشان يستقبله "
هكذا يقولون ومن دون كل الناس أنا من استقبل ؟؟
ألا يكفيني ما أنا به ؟
اهبط إلي القبر قليلا قليلا
هل سيكون هذا مأواه ؟
يخرجونه من الصندوق الخشبي وأتناوله بكف مرتعشة
بعد أنا حملتني ها أنا أحملك و لبئس الحمل ذاك
يضطرب قلبي وترتعش يدي فيصيحون بي  " استرجل يا واد "
وهل جربتم ذلك المصاب لتتحدثوا عن الرجولة ؟
وما هي الرجولة إن لم أحزن علي من علمني إياها ؟
ارقده علي التراب واخفف من أربطة الكفن
اتجنب النظر إلي وجهه لكني أراه
بسمرته وتجاعيده
بنفس ابتسامته المرتسمة
يكاد الوجه ينطق بنظرته المعتادة التي تقول لي " هون عليك فسيمر كل ذلك"
اخرج من القبر ويضعون الدرجات الحجرية ويهيلوا التراب
هل سأتركه هكذا في هذا القبر الضيق المظلم
اتذكر حينما كنت صغيرا وأُغلق علي الباب في غرفة الكرار
اتذكر ظلمتها وبصيص الضوء الذي كان يلوح من بين فتحات الباب القديم
صوته وهو ينادي علي مع أمي
لم أستطع الرد من الخوف احس بحركة من حولي والظلام دامس ...
أبكي ويسمع نحيبي...
يأتي إلي ويخرجني

هل أستطيع أن أخرجك من هذا القبر ؟؟
هل تري بصيص النور أم قد سدوا كل المنافذ ؟

يقف إمام المسجد علي رأس القبر و يتحلقون حوله
أجلس في مكاني متكئا بظهري علي شاهد قبر خلفي
كل ما أمامي ضباب وبالي مشتت
يقول كلمات عن الصبر وهل هناك لنا الاه ؟

 فقط اتركوني
الكلمات في أحيان كثيرة يكون الصمت عنها أفضل من قولها
هلا تصمتون قليلا وتتركوني ؟؟
ينظرون لي وكلهم يظهر علامات الأسى والحزن
النفاق في العيون ويحسبون أنهم يواسوني وهم لا يفعلون الا خداع نفسهم
لم أطلب منكم تلك النظرات هو فقط الواجب ،أدوه ولتنصرفوا عني واتركوني لحالي
كل إلي ما في باله .

وهل يضر الفقد إلا صاحبه ؟
هل يضر إلا من كان الحب تغلغل بداخله ؟
هل يضر الفقد إلا أنا ؟

ينهي كلماته ويعزوني 
النظرات المنكسرة في العيون والكلمات المستهلكة في الأفواه .
والكل يسارع ليذهب إلي حاله .
تغادر السيارات و الجرارات كسرب من نمل صغير بين شواهد القبور تخرج إلي الطريق الاسفلتي وتحمل علي ظهرها الجميع .
اركب واحدة منها بدفع من أحدهم
انظر خلفي ولا يعود هناك إلا هو ... بمفرده
تغادر السيارة ويبتعد القبر
أحس وكان روحي تجذب مني
هل نسيت جزءا مني بداخل القبر وخرجت ؟
اسمع صوتا عميقا
صادرا عن القبر أم من داخلي ؟
لا أعلم
أسمعه واضحا جليا
" اذهب فلم يعد هناك من أحد لك إلا أنت ..."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق